سهِرنا مع القمر والخشبات، همست وضجّت أصوات أبطال المسرح، واختلط إيقاعها مع نسائم الشّرق بعد الغياب فارتحلنا بين الحلم والليل، إنه المسرح في قرية برحليون.
كتبت وعلّلت ونقدت الأديبة غادة السمان مسرح اللامعقول، عبر مقالةٍ كتبتها عام 1969، ونشرتها في كتابها “مواطنة متلبسة بالقراءة”، ووصفت مسرحية (يونيسكو) من خلال تَعَجُّب الحضور الذي طغت عليه طلاسم المسرحية وهذيان أبطالها.
أمَّا مسرحك يا برحليون فلم يحظ بنقدِ ناقدٍ، كانت مسافة الوقت قصيرة بين أحداث مسرحية (يونيسكو 1969) والنهضة المسرحيّة البرحليونية (1970-1976) برعاية نادي التضامن البرحليوني. وكان لغياب النقد أسبابٌ أهمّها:
-وجود برحليون في منطقةٍ نائية من جنَّة جبّة بشرّي.
-بدائية وسائل الإعلام، فلم يكن هناك سوى الإعلام الرسمي (إذاعة لبنان من بيروت وتلفزيون لبنان) بإمكانيات محدودة.
-انشغال مراسلي الصحف المتخصّصين في تغطية الأحداث الثقافية بالنهضة البيروتية وحفلات المصايف المحيطة بها، في تلك الحقبة.
-اعتماد الدّعاية النّشرية، بمناشير تُلصق على الأعمدة والجدران، أو بواسطة مكبّر صوت يجوب الأزقّة، ولا يخرج صوته من فضاء القرية لجلب الحضور والنقّاد.
خلافًا للألغاز الكامنة في مسرح اللامعقول، كان المسرح البرحليوني من واقع الحياة، فقد حمل الفرح من الحقول، البهجة من الحصاد، والأُنس من حول الوجاق، وزرعها على خشبات مسرحٍ، أزهر عطاءً بحبور ممثّلين وشغف حضور.
مسرحيات توالت وتتالت نذكر منها:
(تنابل الضيعة) موضوعها اجتماعي ساخر، تناول البطالة المقصودة بسبب الكسل ولعب الميسر وتأثيرهما على العائلة والمجتمع.
(طبخة بحص واستويت) تناول موضوعها الزيجات المدبّرة بأسلوبٍ ساخر بامتياز، نقدٌ غير مسبوق للمجتمع في ذاك الوقت، مجتمع سلواه الوحيدة كانت حياكة زيجات، في ظل غياب وسائل التسلية من تلفزيون وغيره.
(ربِّي بتلاقي) مسرحية جرت أحداثها بعدما حطَّ التلفزيون رحاله في ربوعنا، تناول النصّ موضوع التربية والسهر على جهد الأولاد، وتحصيلهم الدراسي بسب انغماسهم في ثقافة التلفزيون الغريبة عن مجتمعاتنا آنذاك، وما تحمله من تسميم للأفكار بحسب رأي الأهالي.
جميع هذه المسرحيات، كانت من تأليف مجموعة من المتعلّمين والمثقّفين في القرية، نذكر منهم جوزيف طرار طراد، بهيج يوسف كرم، بدوي رشيد يزبك، يعقوب شيبان كرم وغيرهم. تُرجمت هذه الأعمال بواسطة كوكبة من الممثّلين: بهيج يوسف كرم، يعقوب شيبان كرم، حنّا إميل كرم، هند جريس أبي نادر، ساميا طنسي العلم، رامز طنسي العلم، صونيا جميل كرم، صونيا عزيز كرم، كميل هواش كرم وغيرهم بقي طيفهم في ذاكرة جميلة منسية لكن عدم وجود الوثائق حال دون ذكر أسمائهم.
أمَّا مسرحية (هيك كنَّا وهيك صرنا) فكانت ثلاثية التأليف والتمثيل. بهيج كرم، بدوي يزبك ويعقوب كرم، فقد ألَّفوا ومثّلوا وأبهجوا الجمهور، من خلال الوعي التهريجي، الكامن في نصوص المسرحية التي تصدّت للصرعات القادمة من العاصمة، بواسطة الشباب الّذين هجروا القرية من فترة قريبة وعادوا إليها في فصل الصيف. مسرحية حملت هموم القروي، لعدم قدرته الحفاظ على تقاليد تُبقي ثقافة الحقول والكروم والعائلة المثالية، في فلك قرية زاحفة إلى التمدن المغلوط.
جميع هذه المسرحيات، كانت كواليسها بلاطة منحنية انحناءً بسيطًا تدعى (بلاطة الضهر)، القابعة عند مدخل القرية البعيدة عن حشرية العيون. كانت تجري التدريبات على ضوء القمر لأنّ نجّار الباطون الوحيد في القرية، أسعد زيدان كرم، لا يبني المسرح إلَّا نهار العرض، لانشغال الخشب في مهمّته، كانت التغطية من آلة تصوير وحيدة يملكها أستاذ الأدب أنطونيوس مخايل عكّاري الذي برع في تغطية مجمل أحداث برحليون أسود وأبيض، لأرشيفٍ لم يُستثمر.
التَميُّز كان لجميع الممثّلين، لكن ثلاثة منهم كانوا ينالون ثناء الجمهور وتصفيقه: بهيج كرم بجديته واندفاعه لفكره التحرّري، يعقوب كرم لظرافته فقد كانت الشخصيات الهزلية تسكن جسده وروحه، أما بدوي يزبك فكان ولا يزال متعدّد المواهب، بشخصية فريدة جمعت خصائص متعددّة، فقد أتقن أدواره بمهنِيَّة عالية في الجدّ والهزل تمثيلًا وواقعًا، ولا يزال يؤدّي دوره في أحداث القرية نقدًا ساخرًا بناءً، لتقويم الاعوجاجات، وبلسمة النفوس الحزينة، فيزرع البسمة في الحزن، والأمل والعزاء في المآسي.
رحم الله زمنًا وُضع في الحرز، كان التمثيل والواقع فيه متشابهين بسبب صفاء النفوس، والتآخي، والمحابرة، والغيرة، والجيرة السعيدة، والمصاب الواحد المشترك والمحبّة في كلّ آن.