زار بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق للروم الارثوذكس يوحنا العاشر يازجي بلدة دوما البترونية، بدعوة من راعي أبرشية جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان) للروم الارثوذكس المتروبوليت سلوان موسي، لافتتاح “متحف متروبوليت نيويورك وأميركا الشمالية لثلاثة عقود من 1936 حتى 1966 المطران أنطونيوس بشير.
وأقامت بلدة دوما استقبالا حاشدا للبطريرك يوحنا العاشر وقرعت أجراس الكنائس عند وصوله وأثناء مروره على السجاد الأحمر سيرا على الاقدام في السوق القديم، وصولا الى كنيسة “سيدة الرقاد” على وقع موسيقى الفرقة النحاسية والزغاريد ونثر الأرز، حيث كان الشعب بانتظاره يتقدمهم المتروبوليت سلوان، رئيسة البلدية زينالي أيوب والمرجعيات الوطنية والمحلية والكهنة.
كما كان في استقباله، نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، وزير الدفاع اللواء ميشال منسى، والنواب فادي كرم، جورج عطالله، غياث يزبك وجميل عبود، النائبين السابقين بطرس حرب ومروان أبو فاضل، محافظ بيروت القاضي مروان عبود، قائمقام البترون روجيه طوبيا، راعي أبرشية البترون المارونية المطران منير خيرالله، رئيس اساقفة طرابلس والشمال للروم الملكيين الكاثوليك المطران ادوار ضاهر، مطران الجنوب المتروبوليت الياس الكفوري، مطران البرازيل المتروبوليت دمسكينوس منصور، مطران أميركا الشمالية المتروبوليت سابا إسبر، مطران الكويت المتروبوليت غطاس هزيم، مطران الأرجنتين المتروبوليت يعقوب الخوري، مطران حوران وجبل العرب المتروبوليت أنطونيوس سعد، الوكيل البطريركي الأسقف رومانوس الحناة، والاسقف المساعد موسى الخصي، ممثل المتروبوليت الياس عوده المتقدم في الكهنة فيليب سعيد يرافقه الأب انطانيوس أكسيليس، خادم رعية دوما الخوري بسام ناصيف ولفيف من الكهنة، ووفد كبير من أبرشية أميركا الشمالية وشخصيات قضائية واجتماعية وثقافية وبلدية واختيارية وحشد من الأهالي والجمعيات الكشفية وممثلي المؤسسات والجمعيات.
يوحنا العاشر: وبعد الصلاة وترحيب من المتروبوليت سلوان، رد البطريرك يوحنا العاشر بكلمة قال فيها: “يسعدني أن أكون بينكم في دوما العزيزة، دوما الجمال الذي يأبى أن يستتر. في هذه البلدة الوادعة التي يعانق قرميدها عنفوان الأرز ويلثم وجه الشرق بأصالة الإيمان وحكايات الضيعة القديمة الغافية على عراقة تاريخها. ومن عراقة دوما يحلو لي أن أطل اليوم وأتأمل وإياكم ابن دوما البار المطران أنطونيوس بشير الذي مر على رقاده ما يقارب الستين عاما لكن ذكراه حاضرة في القلوب والأذهان قبل المتاحف والقاعات وفي البشر قبل الحجر”.
اضاف: “اسمحوا لي أن أذكر ثلاث نقاط من حياة هذا الحبر الجليل تختصر في ما تختصر شيئا من عراقته وأصالته. أنطونيوس بشير الذي تسقف على أميركا الشمالية في ثلاثينيات القرن الماضي، هو الذي دعم الروح الأنطاكية في الأبرشية الناشئة حديثا، وهو الذي ساهم في رص الصفوف في وقت كانت فيه الفرقة سيدة الموقف في الديار الأم وفي الأبرشية الناشئة. فأسهم في الحفاظ على وحدة الأبرشية وعلى أصالة انتمائها إلى الكنيسة الأنطاكية. أنطونيوس بشير هو الذي نقل جبران خليل جبران بقلمه الإنكليزي إلى العربية. لعل فيه شيئا من روح جبران ومن ثورية جبران ومن جماليته. بشير هو الذي نقل لنا “نبي” جبران إلى لغة الضاد. ولعل في هذا شيئا من انعكاس حب هذا الرجل للفيلوكاليا في الأدب الكنسي. أوليس الأدب شيئا من الفيلوكاليا؟ من “محبة الجمال” الذي يرى في الحرف أيضا”.
وتابع: “أنطونيوس بشير هو الذي حمل كنيسة أنطاكية في قلبه وعقله وترجم حبه لها أفعالا. والبلمند شاهد على هذا بصرحه الكبير، المعهد اللاهوتي الذي تجسد في فكر بشير عرفانا منه بفضل كنيسته في ستينيات القرن الماضي. أوقف بشير هبة مالية للكنيسة الأنطاكية ليكون لها معهدها حاملا لكلمتها ولرسالتها. وفي السنة التي انتقل فيها بشير إلى رحمات الله، جاء فيليب صليبا ليكمل جهود السلف. فكان إلى جانب البطريرك ثيودوسيوس السادس بو رجيلي الذي وضع حجر الأساس سنة 1966. وافتتح المعهد أبوابه في سبعينيات القرن الماضي. ولعل من سخرية القدر أن تغلق مدرسة خالكي في القسطنطينية ويفتتح البلمند في أنطاكية في نفس الفترة. وكأن للمسيحية في هذا الشرق صليبا تعيشه في كل الأوقات”.
واردف: “نكرم اليوم أنطونيوس بشير في دوما مسقط رأسه. نكرمه في أبرشيته جبل لبنان التي يسهر راعيها المطران سلوان على قدر ما أعطاه الله من مواهب ليكون حارثا وحارسا لجهود من سبقوه إلى محراث هذا الحقل، ومنهم المطران العلامة جورح خضر، أعطانا الله بركة صلواته. نكرم أنطونيوس بشير وبيننا أحبتنا أبناؤنا في أبرشية نيويورك وسائر أمريكا الشمالية التي أسند الله محراثها إلى الأخ سابا إسبر. نكرمه اليوم ونحن على أعتاب المجمع المقدس الذي نجتمع فيه لنقول لأنفسنا ولأبنائنا إننا مؤتمنون على إرث المسيح في هذا الشرق، في لبنان الذي يأبى أن ينكسر أمام المحن، وفي سوريا التي تتطلع إلى فجر جديد. نكرمه اليوم ونسأل له ذكرا أبديا في مراحم أبي الأنوار. نكرمه في هذا الشرق الذي اقتبل وجه المسيح قبل ألفي عام ووجه المسيح لن يغيب عنه هو المبارك إلى الأبد آمين”.
بعد ذلك قدم المتروبوليت سلوان للبطريرك يوحنا العاشر هدية رمزية عبارة عن لوحة مائية تمثل البطريرك مباركا كنائس دوما للفنان ميشال روحانا، ثم تسلم متروبوليت نيويورك وأميركا الشمالية هدية من رئيسة البلدية عبارة عن لوحة للمتروبوليت بشير من رسم كوستي ناصيف.
كما تسلم البطريرك من طفل كمشة تراب موضوعة في صندوق من خشب الزيتون.
بعد ذلك خرج البطريرك وسلوان والاحبار الى صالون الكنيسة لمصافحة الحضور والمؤمنين الذين تسلموا بركة من البطريرك عبارة عن ايقونة سيدة دوما العجائبية.
ثم توجه البطريرك يوحنا العاشر والوفد المرافق والرسميون الى المتحف فباركه وسجل كلمة في سجل التشريفات وازاح الستارة عن اللوحة التذكارية التي تؤرخ للمناسبة.
وبعد افتتاح المتحف أقامت رئيسة مؤسسة “حنا ونينا أيوب” ورئيسة بلدية دوما زينالي أيوب عشاء على شرف البطريرك والوفد المرافق والحضور الرسمي في “فندق دوما الكبير” قدمه الدكتور مازن عبود، حيث رحب كاهن الرعية بالحضور ثم ألقت رئيسة البلدية كلمة ترحيب وقدمت عرضا قصيرا عن المتحف، فكلمة لمتروبوليت نيويورك سابا إسبر، تلاها كلمة المطران سلوان رحب فيها بالبطريرك يوحنا العاشر والحضور، شاكرا كل من شارك وساهم في التحضير لهذه الزيارة.
يوحنا العاشر: وتوجه البطريرك يوحنا العاشر الى المشاركين بكلمة شكر ختامية قال فيها: “أتوجه اليكم باسم الله الذي هو الجمال الذي سيخلص العالم. أطل عليكم من هذه الدوما الجميلة التي أسسها اليونان القدامى فسحة للأساطير ونذروها لاسكلابيوس إله الصحة. بلدة تمسحنت في نهاية القرن الرابع مع دخول المسيحية إلى جبل لبنان، فصارت معابدها كنائس. بلدة موقعها الوسيط جعلها مدنية، جعلها فسحة للتبادل والتفاعل بين الداخل السوري والساحل اللبناني وارتبطت عوائلها بعوائل مدن هذا المشرق. لقبت بدوما الحديد وتألقت في القرن التاسع عشر كقصبة مشرقية متملكة على هذه الناحية من جبل لبنان القديم. فصار سوقها مقصدا، صار نقطة التقاء ليس فقط للتجارة بل للأفكار والتفاعل. فشكلت بتنوع نسيجها أفضل صورة عن هذا المشرق. إنها دوما، حكاية قصبة مشرقية أسسها أهلها على قيم ناظمة للحضارة والسوق. إنها أرض المتروبوليت أنطونيوس بشير الذي نفتتح متحفه اليوم، وأرض الرهبان والراهبات والقديسين والقديسات المجهولين الذين قدسوا هذه الأرض”.
اضاف: “أعطتها منظمة السياحة العالمية لقب واحدة من أجمل البلدات في العالم. وجمال الأمكنة انعكاس لجمالات بشر صنعت هذه الأمكنة. وما المطران أنطونيوس بشير، متروبوليت نيويورك وسائر أميركا الشمالية ما بين 1936 حتى 1966 إلا واحد من أولئك الذين زرعوا الجمال، ليس فقط في أبرشيته حيث أسس أكثر من ثلاث وستين رعية. لقد زرع محبته في أنطاكية وسائر المشرق. فمول بناء معهد القديس يوحنا الدمشقي للاهوت. هو ابن حي السيدة التي بقيت راعيته في أحلك وأفضل أيامه. أراه واقفا اليوم أمام أيقونتها ساجدا برفقة أمه زينة يطلب الرحمة لنفسي عبدي الله حنا ونينا أيوب اللذين مولا إنشاء هذا المتحف”.
وتابع: “نقف اليوم في دياره التي لرب الجنود وفي حضرة غابات الزيتون وننحني أمام جلال هذه الجبال. فنهمس في الأرض عل السماء تلتقط تنهداتنا. نلتمس على هذه الأرض قداسة خرائب كنائس قديمة لقديسي أنطاكية الذين كانوا منسيين. نسأل شفاعة شربل الرهاوي وشليطا وفوقا ونهرا وضومط وغيرهم. نقف اليوم في بلدة المطران بشير التي ترمز الى تكاتف المنتشر مع المقيم. فبيوت هذه البلدة القرميدية تبلغكم قصص أناس هاجرت الى أميركا، وأبت إلا أن تعود ولو بيتا قرميديا. فمن هاجروا منها تكاملوا مع من قرروا أن يحرسوا الأرض وتراب الأرض”.
واردف: “يطيب لنا أن نقف في قصبة مشرقية من قصبات جبل لبنان القديم كي نبلغ العالم أن المشرق ما زال بألف خير وبأنه لا يموت. نعلن ومن هنا تمسكنا به قضية وذاكرة حية للكوزموبوليتية لا تزول الى انقضاء الدهر”، وقال: “المشرق فسيفساء حضارة العالم القديم وسحر المتوسط، ليس فقط فسحة جغرافية، بل هو حالة روحية ونظام عيش وتنوع وانفتاح. هو حيث سمي التلاميذ أولا مسيحيين، هو مكان اللقيا التعددية التي ليست عبء بل قوة وغنى. هو ضمانتنا وضمانة العالم كي لا يتحول التاريخ الى ساحة عراك وخصام. أناسه فريدون تعلموا الإنكليزية والفرنسية في مدارس الإرساليات، والروسية في المدارس المسكوبية، واليونانية في المدارس الاكليريكية. شيوخه يتلون صلواتهم إلى ربهم بالعربية واليونانية والسريانية. كوزموبوليتيته ما كانت حكرا على النخب بل منسوجة في حياة الناس. هو لقيا الشرق بالغرب والإسلام بأوروبا والتقليد بالحداثة”.
وقال: “وافيتكم اليوم سالكا درب سلفي البطريركين مكاريوس الثالث ابن الزعيم والياس الرابع معوض إلى دوما كي أتكلم عن السلام العادل والشامل. من حق أناس هذه الأرض أن يعيشوا بسلام. من حقهم أن يعيشوا بكرامة. أترى من يوقف شلالات الدماء في غزة؟ من يوقف كل هذا الجنون؟. ننشد سلاما واستقرارا ورغدا للبنان وسوريا. ننشد سلاما لمشرقنا من أرض المطران بشير التي عرفت أهوال الحرب العظمى، فقضى أكثر من ثلث سكانها حتى غصت المدافن بالجثث وهرب الثلث الثاني من الجوع. ركبوا البحر الذي حملهم الى شواطئ نيويورك وبالتحديد الى بروكلين. يجب ألا يبقى أهل هذه الأرض مشردين وهائمين على وجوههم. حان الوقت كي تصير السيوف سككا والرماح مناجل. فلا ترفع أمة على أمة سيفا، و”لا يتعلمون الحرب في ما بعد” كما ورد في الكتاب. المطلوب أن تزول صور القباحة التي تولد دورات عنف وكراهية، ولنصنع صورا للسلام تليق بإنسان هذه الأرض كي لا تتولد الحرب من بعد. نصلي كي تعود موانئنا تصدر تعددية وحضارة وحوارا لا أزمات. نؤازر من بقوا ونعد من هاجروا أن نعمل وإياهم كي تبقى الذاكرة هوية والمشرقية أنماط حياة فلا تزول نكهتنا وطعمنا ولوننا عن وجه الأرض”.
اضاف: “بوركتكم جميعا. بوركت دوما التي تتفيأ بمجد أرز لبنان، بوركت دوما عنوانا وراية للجمال الذي يعكس أولا وأخيرا جمال روحكم أحبتي الحاضرين أبناء هذه البلدة. نسأل صلوات أبينا المثلث الرحمة المطران أنطونيوس بشير ومعكم جميعا نسأل له رحمات الله ونقول فليكن ذكره مؤبدا”.
وختم راجيا من الله “أن يؤهلنا للقياكم دائما بخير واطراد فلاح وأمن ودوام يمن برحمة الله وعنايته، آمين”.