وكان أن نشأ لبنان. وكلّ فترة يتغيّر الأب، ذاك الوصي عليه، ليصطحبه في القطار إلى وجهة ما ليقضي أمرًا كأنّه كان مكتوبًا. ثمّ يتركه هناك ليعود إليه في زمن “الحاجة”. ولبنان تكوّن على شاكلة قطار “مُرَكّب” من مقصورات متصلة، وفيها السياسة والدستور والقانون والمفاهيم، محكومة بالمنطق والأصول والعرف والواقع ومن ثمّ “الميثاق”، تلك المشكلة لكلّ حلّ. ومع مرور الوقت، قضت صياغة النظام بإجراء تعديلات في المقصورات، في القاطرة والمقطورات منها… وخاصة، لاحظنا، في المقطورات… وفي كلّ الإتجاهات.
وتراكمت الأزمات، وتفاعلت التداخلات، منذ ما عرفناه من أحداث القرن التاسع عشر وكان ما كان في باريس، مؤتمر بعد مؤتمر، من فيرساي إلى غيره، مشكورين، صدقًا مشكورين، إلى لا نهاية. حتى كان المؤتمر الأخير في الرابع من آب، وما أدراكم ما هو الرابع من آب، ذكرى التفجير الكوني لبيروت واللبنانيين معًا وما ومَن يمثلون على مدى التاريخ… وبعض من الجغرافيا.
كان المؤتمر إذن، وكان معه الإطلالة/المناسَبة المكرّرة للرئيس الفرنسي، الداعي إلى المؤتمر والنجم الأوحد لمنظّميه ومشغّليه والناطقين بإسمه. وكان، الغاية الأساس منه، كان خطاب الرئيس الفرنسي في حضور “صُوَري” لما يقارب 40 من “أصدقاء” لبنان.
ولست أدري لماذا جسّد لي ذلك الخطاب المشهد ال”دوستويفْسكيِّ” الصورة من قصّته المعروفة: “المقصورة الأخيرة في القطار” (ملخّصها في (1) أدناه).
وكان لبنان قد اعتاد خطابات الرئيس ماكرون النارية إلى جانب خطابات وكيل دبلوماسيته “النورية” وفيها التقريع، المُسْتَحَق، والتشنيع، المَشكور، والتش…، بالمسؤولين اللبنانيين، نيابة عنّا، ودائمًا مع الحرص على تجهيل الفاعل والتعظيم بما سَيُفْعَل بهم، ولا يُفْعَل… إلى آخر منظومة عُقَد المُسْتَعْمِر الذي لم يعد، هذا التوّاق أبدًا إلى أيام “عزّ” زمان.
فبإسم اللبنانيين المقتولين المظلومين المقهورين نشكركم، حقًّا وبكل صدق وامتنان، نشكركم على هذا الإهتمام.
ولكن بإسم السيادة الوطنية و نُظُم الدبلوماسية العالمية ووفقًا لأصول التخاطب الندّي لا يسعنا إلّا قول ما يشفي بعضًا من الغليل، علمًا أنّ الموضوع، أي جلّه، هو كلام بكلام، وسيبقى كذلك !
ولأنّ القطار له مقصورة أمامية، القاطرة، وهي ذات طاقة محدودة، تحدّ من عدد المقصورات “المجرورة” وراءها، فكلّ تغيير في “صيغة” لبنان، أي في مقصورة ما، يقتضي إستبدال مقصورة موجودة ببديلة لها، علمًا أن المقصورات تتوالى، مثل الأوعية المتّصلة، بتسلسل منطقي (يُفْتَرَض) وتؤثّر الواحدة على جارتها.
لقد خاطبنا الرئيس ماكرون وخاطب العالم، وقد إقتسبنا ممّا ساقه متذكّرين أنّ لبنان كان، ومنذ قرون، قد استوحى مبادئه “السامية” (ولا علاقة لذلك بالمندوب السامي) من الثورة الفرنسية ومن ثمّ صاغ دستوره (مع الصيغة الملازمة له) على “نول” الدستور الفرنسي الذي يتجدّد كلّما دعت الحاجة، لِيبقى دستور لبنان أسير صيغته الأولى “المعجزة” وفيها البنود المؤقّتة، أبدية اللامفهوم والتعطيل.
ومن خطابه “القويّ”، المُفْعَم بأعتى فنون “حقوق الإنسان” الكلامية وجوارحها فهمنا أنّه يريد إجراء تبديل في بعض مقصورات قطار لبنان فكان في ما قاله من شعارات الثورة الفرنسية المجيدة: إستبدال مقصورة “الحرّية” (Liberté) بمقصورة “قانون معاداة السامية” الذي يحرّم “الحرية”، وإستبدال مقصورة “المساواة” (Égalité) بمقصورة “قانون معاداة الصهيونية”(2) الذي يجرّم المساواة، وإتّصالًا إستبدال مقصورة “الأخوّة” (Fraternité) بمقصورة “قانون معاداة (ما يسمّى بدولة) “إسرائيل” ” الذي يلغي مفهوم “الأخوّة”. وبغية “تتويج” هذه المفاهيم/الإنجازات الحديثة في مجالها، طلب إستبدال مقصورة “علمانية الدولة” الملحقة بسابقاتها بمقصورة “قانون معاداة اليهود” ناسفًا مبدأ العلمانية من أساسه. ومع كلّ ذلك، ومع تدافع المقصورات، كان هناك مجال لإضافة مقصورة “قانون إنكار المحرقة” وقوانين من نوع “إنكار أسلحة الدمار الشامل” و”مكافحة الإرهاب” و”الرهاب من …” هذا أو ذاك، مع كلّ ما يمكن أن يعنيه ذلك بما يتناسب والأهداف… ! سيدي الرئيس، هلّا استبدلت مقصورة “المقاومة الوطنية الفرنسية ” بمقصورة حكومة “فيشي” (Vichy) ليكتمل المشهد “التغييري”؟ وأوعدك بأنّي لن أتطرّق إلى المعاني الوطنية الممجّدة لنشيد “المارسيّيز” الفرنسي (La Marseillaise). برافو ! حضرة الرئيس، حقّا un grand bravo !
باسم المهمّشين في لبنان، رجاءً يا سيد ماكرون، نفّذ تهديداتك وتهديدات “أصدقائك” الأوروبيين، نفّذوا وعودكم، لا تكونوا فارغين كذّابين كالمسؤولين اللبنانيين. إنّنا نطالبكم بالعقوبات، من أيّ نوع، على أيّ كان، لأيّ سبب، كان أو سيكون. كفّوا عن الكلام وانصرفوا إلى العمل.
وباختصار. بالنسبة إلى مبالغ ال 375 مليون دولار “الممنوحة” في المؤتمر، إن شاء الله، نقول: منذ التفجير لقد سجّل لبنان دخول ما تمّ تقديره بملياري دولار ذهبت مباشرة إلى الأنجزة والمحاسيب، ولم ترَ طريقًا لها إلى حيث تضمّد جرحًا. ولكن خلال هذه المدة، لقد خرج من لبنان ما يزيد عن ثماني مليارات من الدولارات “ذهبت” غالبيتها إلى ملاذاتكم الضريبية وإلى فرص الإستثمار والمحميات السياسية والمالية لديكم… رجاءً … خبّرونا عنها، إستخدموها في التخفيف من حرقة دموعكم على حالنا.
بالعودة إلى فيودور، منذ العام 1830، جلس في المقصورة الأخيرة آباء أوصياء كثر على لبنان، من فرنسا وبريطانيا وروسيا وغيرها، ومن العثمانيين والفرنسيين (مجدّدًا)، كما وكان لنا أوصياء من مصر وسوريا وغيرهم … وغيرهم، الأمر الذي جعل من اللبناني ذاك “الحضاري” المتقبّل لكلّ ضيم. وعلى الرغم من أنّ كلّ ما سبق لا يعطيك الحقّ، سيّدي الرئيس، من موقعك الرسمي الأجنبي، بل يجرّدك من أيّ حقّ في تقريع اللبنانيين، فنحن، أصحاب هذا الحقّ الحصريين، نحن متسامحون وعَمَليون معًا، نحن نريد أن نأكل “العنب” لذلك، إليك طلب من أهل العِلّة إلى أهل “العفّة والنخوة”، سنعطيك هذا الحقّ إنّما، وكما عادتنا، “بصورة إستثنائية ولمرة واحدة فقط” (قد تتكرّر، طبعًا كما العادة أيضًا)، وذلك على شرط التنفيذ الفوري، وليس لإشهاره سلاحًا للتهويل به علينا والهروب من “نعيم” فرنسا إلى “جحيم” الإغتراب. إنّه لا شكّ زمن العربدة المفتوحة !
عزيزي فيودور.. بالله عليك ! هلّا نصحت إيمّانويل بأن يجلس أبًا وصيًّا صامتًا صالحًا في المقصورة الأخيرة كما أرادته قصّتك، وليَكفّ عن التجوّل فارعًا (فارغًا) دارعًا على رصيف المقصورات، مُدّعيًا ما لا يمكن له تحقيقه، “فاشِشًا” غيظه من صَفار السُتَر المحلية، مُدّعيًا أبوّة تعوّض الولد الشارد، الذي ربّما كانه، الأم الحنون التي إفتقدها في طفولته الضائعة…؟
بالله عليك يا فيودور… هلّا فعلت؟
بيروت، في 8 آب 2021م. حيّان سليم حيدر.
مواطن ينتظر على رصيف قطار لبنان.
_________________________________________