الصحافة العميقة في المجتمعات العميقة

لعل السؤال الأخطر الذي يستحق الجواب الأجرأ في زمن إحكام القوى الخفية على المقدرات و الحقوق المدنية للناس في المجتمعات النامية كما المتقدمة عليها ، هو السؤال الذي يتمحور حول الدور الذي تمارسه الصحافة العميقة في توفير حماية متقدمّة للدولة العميقة و تمكينها من الإطباق على مفاصل الدولة الحقيقية و التحكم بمصير رعاياها و الإمساك بمفاصل القرار الاقتصادية و السياسية و الأمنية ، بما يؤمن الحصرية المعلنة للسلطة المستترة و الفارضة سطوتها على المرافق الحياتية ، في ظل القبض على سلطة القرار من جهة ، و العمل لتجهيل المجتمع عن حقوقه من نواح أخرى .

ففي مجتمع برمجيات الفوضى المركبة في الأنظمة المرتبكة ، تحتل الصحافة العميقة مرتبة الصدارة في أولويات خدمة هرميات السلطات المتوافقة ضمناً و علانيَّةً على توزيعات مغانم حصاد التسليم الطوعي و القبول الخنوعي للرعايا الأتباع الذين خضعوا و خنعوا و إرتضوا و إستسلموا ، فسارعوا لأن يربطوا رقابهم بحبال غليظة و يقيدوا أرجلهم بسلاسل جنزيرية و يكبلوا اياديهم بأصفاد حديدية ، و يكمّوا أفواههم عن كل صرخةِ حقٍ و استنجادةٍ إغاثية . لا لشيء سوى أنهم لم يعرفوا طعم الحق ، و لم يذوقوا نكهة الحرية مرّة ، فعاشوا بعلاً و تصحُّراً دائمين ، و لم يترطبوا بندىً المعرفة ، و لا هم بلّوا ريقهم بقطرة ماء الكرامة .
و تجهد الصحافة العميقة ، لتركيز سلطتها بحرصها على عملية التصحير المعرفي على قواعد التجهيل و تعميم الإكتفاء بفتاتِ المسموح به من بقايا الاخبار الباهتة و الصور الزائفة و التحليلات الإيهامية المفسدة و الباطلة و الهادفة إلى التضليل و الإنقيادية التسليمية ، بالإرتكاز على استراتيجيات الدولة العميقة التي تكون محمية من الصحافة العميقة و أدواتها و فنون الإخبار اللازمة للتحكم بصناعة الرأي و إحكام القيادة على توزيع المعرفة المسموح بها و التي تخدم فلسفة و وظيفة كل سلطة قابضة ، اضافة الى ضخِّ التشويش الذي يناسب عملية الإطباق على الأذهان و يقتل شهية الوعي و يمنع الرغبة بمتابعة الاخبار و فهم دلالات ما حدث و ما يحصل ، من دون الطموح بالوصول إلى مرتبة توقع التطورات اللاحقة . و هذا يشكل نوعاً من المحميات الحاجبة للمعرفة و المُسدِلةِ الستارة على ما يحق للرعية ان تعرفه بالحد الادني من المحيط الخبري .

ان التعرّض لمفهوم الصحافة العميقة ، كسلطة حامية لكيانية الدولة العميقة ، في ظلِّ تنامي الرهان المعرفي على تقديمات الذكاء الاصطناعي ، بما يوفره من قدرات للتلاعب بالمعلومات و المعارف و ضخ تصنيعاتٍ خبرية مأخوذة من مخازن معلومات و خوادم معلوماتية ،ويشكل تحدياً حقيقياً لإنتاج معلومات نظيفة و مفيدة ، تتصف بالجودة و النوعية و تقدم خدمات للإنسانية و تسهم بشكل مباشر في تطوير قدرات الناس و تساعدهم على الفهم و تمكنهم من الإفهام و التفكير و التعبير و الابتكار.

فالصحافة كسلطة ، تمارس في المجتمعات المترهلة القدرة الخفية للتحكم بمفاصل المعرفة . إضافة إلى انها تشكل شبكات نفوذ فاعلة داخل النظام الإعلامي و السياسي في البلد ، و تستثمر غياب الرقابة الديمقراطية، بما يعنيه دور الصحافة العميقة في تشكيل الأحداث ، انطلاقاً من كونها صحافة داخل الصحافة ، تقوم على اقامة تحالفات مصلحية ، تقوم بها النخب السلطوية الدائمة السعي لتقويض أسس إستخدام الديمقراطية حِفظاً لمصالحها الخاصة ، و العمل للسيطرة على المعرفة و إشاعة التعمية و التجهيل من خلال كتم ما يجبُ ان يُعرَف و ألإقلال من تعميم المعلومات المفيدة .

و اخطر وجوه حماية الفساد الذي تمارسه الصحافة العميقة في مراتب سلطة الدولة و اشكالها ، هو تدخلها في الانتخابات و توظيف الإعلام و هيمنتها على وسائل التواصل للتأثير و تغيير الخيارات و التلاعب بصناعة القرار و تنمية الرأي الحر ، إلى جانب جهدها للسيطرة على الاقتصاد و التحكم بأنشطته من خلال نشر ثقافة الفساد و الاحتكار، و ممارستها لدور اجهزة المخابرات الصحفية و توظيف مراكز البحوث و التوثيق لخدمة اهدافها في تشكيل السياسات المتحركة و تأثيرها المباشر على مظاهر الديموقراطية و سلوكياتها المجتمعية على مختلف الأصعدة و المستويات السياسية . إلى جانب ما تقوم به من تحريض وسائل التواصل الاجتماعي و توظيفها للتأثير على الرأي العام و توجيهه وفقَ ما يتناسب و مصالحها الخادمة لاهداف و توجهات الدولة العميقة بكل اهدافها المكشوفة و المستورة و تلك المُخبَّأة خلف النيات و المقاصد و المشاريع التي يتم إعدادها في جبانة الخفاء و وقاحة الجهر .
و يتحدد الدور الوظيفي للصحافة العميقة في تدعيم ركائز الدولة العميقة و مفاهيمها ، من خلال مستويين متعارضين :
مستوى خدمة الدولة العميقة ، و هو المدخل الرئيس إلى التنازل عن شرفية الدور المناط بها ؛
و مستوى الإخلال بالمهمة المعرفية و الرقابية التي يجب ان تمارسها على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، من حيث إنها سلطة معنوية في خدمة الرأي العام و حماية الديمقراطية في مجتمع حريات موصوفة .

من هذا الواقع المأزوم يجب وضع إستراتيجيات تفاعلية للتعامل مع أساليب الصحافة العميقة و مواجهة قدراتها في عملية التحكم بالمعلومات، نشراً و كتماً و تحويراً و تشويها و إستثماراً ، و ذلك من خلال إمعان الصحافة العميقة بنقض المواثيق المهنية و عدم الالتزام بشرفيات المهنة ، إستخباراً و إخباراً و موضوعية تحليل. أضافة إلى الإخلال بالوظيفة الإعلامية كفعلٍ حضاري و رسالة تعريفية و مسؤولية إجتماعية . إلى جانب بروز دكتاتورية الصحافة العميقة و سلطويتها في الإمساك بمفاصل المعرفة و احتكارها و إستثمار مسارها و تجييرها لغير الصالح العام ، فضلاً عن ممارستها لعملية التعاكس المعرفي ، في التضليل و التضييع و إخفاء الحقائق و إجتزائها .

و الدور المشبوه للصحافة العميقة ، كخادمة للدولة العميقة و الاقتصاد العميق و الادارة العميقة و الدبلوماسية العميقة ، و اشتراكها في جرميات التضليل و توفير السبل للدولة العميقة لتأكيد حضورها السلبي و دكتاتوريّة الإعلام الأسود ، يطرح إضمامة مخاوف حيث يتركز التساؤل حول : أيُّ صحافة ، لأيِّ سلطةٍ ، لأيِّ مجتمع ؟ و من يحصن مجتمع الدولة العميقة كي لا يتحول ضحايا للصحافة العميقة ؟
فالدولة العميقة لها صحافتها الخاصة التي تعمل لصالحها كجزء من مكوناتها و أحد أبرز اجهزتها و أقواها فعالية ، و تعمل لتجيريها بقوة لصالح إحكام الدولة العميقة قبضتها على الواقع العام المأزوم في البلد ، الفاقد الاهلية للتحكم بقراره و معرفة صالحه .
و على هذه المداميك الملتوية الرصف ، تتحدّد الوظيفة الرئيسية للصحافة العميقة كحامية للدولة العميقة ، التي تدعم خططها و تقوم للترويج لسياستها و تبييض المعلومات حولها .

غير ان القضية الأكثر إثارة للقلق و الواجب طرحها للنقاش البناء ، هي التفتيش عن المرجعية الاعلامية الواجب الاحتكام اليها مع تنامي قدرات الدولة العميقة و تسخيرها الصحافة السوداء ، اي الصحافة العميقة لخدمة مصالحها . و أيُّ دور يجب طرحه على البحث ، للخلوص من مجتمعات الفوضى ، بوجوهها الدستورية و السياسية و الامنية و الاقتصادية ؟

جورج كلّاس
وزير سابق

عن grenadine